فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{كَلَّا إِنَّ كتاب الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)}
ردع وإبطال لما تضمنه ما يقال لهم: {هذا الذي كنتم به تكذبون} [المطففين: 17] فيجوز أن تكون كلمة {كلا} مما قيل لهم مع جملة {هذا الذي كنتم به تكذبون} ردعاً لهم فهي من المحكى بالقول.
ويجوز أن تكون معترضة من كلام الله في القرآن إبطالاً لتكذيبهم المذكور.
{كَلاَّ إِنَّ كتاب الابرار لَفِى عِلِّيِّينَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كتاب مرقوم يَشْهَدُهُ}.
يظهر أن هذه الآيات المنتهية بقوله: {يشهده المقربون} من الحكاية وليست من الكلام المحكي بقوله: {ثم يقال} الخ، فإن هذه الجملة بحذافرها تشبه جملة: {إن كتاب الفجار لفي سجين} [المطففين: 7] إلخ أسلوباً ومقابلةً.
فالوجه أن يكون مضمونها قسيماً لمضمون شبيهها فتحصلُ مقابلة وعيد الفجار بوعد الأبرار ومن عادة القرآن تعقيب الإنذار بالتبشير والعكس لأن الناس راهب وراغب فالتعرضُ لنعيم الأبرار إدماج اقتضته المناسبة وإن كان المقام من أول السورة مقام إنذار.
ويكون المتكلم بالوعد والوعيد واحدًّا وجَّه كلامه للفجار الذين لا يظنون أنهم مبعوثون، وأعقبه بتوجيه كلام للأبرار الذين هم بضد ذلك، فتكون هذه الآيات معترضة متصلة بحرف الردع على أوضح الوجهين المتقدمين فيه.
ويجوز أن تكون من المحكي بالقول في: {ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون} [المطففين: 17] فتكون محكية بالقول المذكور متصلة بالجملة التي قبلها وبحرف الإبطال على أن يكون القائلون لهم: {هذا الذي كنتم به تكذبون} على وجه التوبيخ، أعقبوا توبيخهم بوصف نعيم المؤمنين بالبعث تنديماً للذين أنكروه وتحسيراً لهم على ما أفاتوه من الخير.
و{الأبرار}: جمع بر بفتح الباء، وهو الذي يعمل البِر، وتقدم في السورة التي قبل هذه.
والقول في الكتاب ومظروفيته في {عِلِّيين}، كالقول في {إن كتاب الفجار لفي سجين} [المطففين: 7].
و{عليون}: جمع على، وعلى على وزن فعِّيل من العلو، وهو زنة مبالغة في الوصف جاء على صورة جمع المذكر السالم وهو من الأسماء التي ألحقت بجمع المذكر السالم على غير قياس.
وعن الفراء أن {عليين} لا وَاحد له.
يريد: أن {عليين} ليس جمع (على) ولكنّه عَلَم على مكان الأبرار في الجنّة إذ لم يسمع عن العرب (على) وإنّما قالوا: عِلِّيَّة للغرفة، وعليون عَلَم بالغلبة لمحلة الأبرار.
واشتق هذا الاسم من العلوّ، وهو علوّ اعتباري، أي رفعة في مراتب الشرف والفضل، وصيغ على صيغة جمع المذكر لأن أصل تلك الصيغة أن تجمع بها أسماء العقلاء وصفاتهم، فاستُكمل له صيغة جمع العقلاء الذكور إتماماً لشرف المعنى باستعارة العلو وشرف النوع بإعطائه صيغة التذكير.
والقول في {وما أدراك ما عليون} كالقول في {وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم} [المطففين: 8، 9] المتقدم.
و{يشهده} يطلعون عليه، أي يعلن به عند المقربين، وهم الملائكة وهو إعلان تنويه بصاحبه كما يُعلن بأسماء النابغين في التعليم، وأسماء الأبطال في الكتائب.
{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)}
مضمون هذه الجملة قسيم لمضمون جملة: {إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} [المطففين: 15] إلى آخرها.
ولذلك جاءت على نسيج نظم قسيمتها افتتاحاً وتوصيفاً وفصلاً، وهي مبيِّنة لجملة: {إن كتاب الأبرار لفي عليين} [المطففين: 18] فموقعها موقع البيان أو موقع بدل الاشتمال على كلا الوجهين في موقع التي قبلها على أنه يجوز أن تكون من الكلام الذي يقال لهم، وهو المحكي بقوله: {ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون} [المطففين: 17] فيكون قول ذلك لهم، تحسيراً وتنديماً على تفريطهم في الإِيمان.
وأحد الوجهين لا يناكد الوجه الآخر فيما قُرر للجملة من الخصوصيات.
وذُكر الأبرار بالاسم الظاهر دون ضميرهم.
خلافاً لما جاء في جملة: {إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} [المطففين: 15] تنويهاً بوصف الأبرار.
وقوله: {على الأرائك} خبر ثان عن الأبرار، أي هم على الأرائك، أي متكئون عليها.
و{الأرائك}: جمع أريكة بوزن سفينة، والأريكة: اسم لمجموع سَرير ووسادتِه وحَجلةٍ منصوبة عليهما، فلا يقال: أريكة إلا لمجموع هذه الثلاثة، وقيل: إنها حبشيَّة وتقدم عند قوله تعالى: {متكئين فيها على الأرائك} في سورة الإنسان (13).
و{ينظرون} في موضع الحال من {الأبرار}.
وحذف مفعول {ينظرون} إما لدلالة ما تقدم عليه من قوله في ضدهم: {إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} [المطففين: 15] والتقدير: ينظرون إلى ربهم، وإما لقصد التعميم، أي ينظرون كل ما يبهج نفوسهم ويسرهم بقرينة مقام الوعد والتكريم.
وقرأ الجمهور: {تَعرف} بصيغة الخطاب ونصب {نضرة} وهو خطاب لغير معين.
أي تعرف يا من يراهم.
وقرأه أبو جعفر ويعقوب {تُعْرَف} بصيغة البناء للمجهول ورفع {نضرةُ}.
ومآل المعنيين واحد إلا أن قراءة الجمهور جرت على الطريقة الخاصة في استعماله.
وجرت قراءة أبي جعفر ويعقوب على الطريقة التي لا تختص به.
والخطابُ بمثله في مقام وصف الأمور العظيمة طريقة عربية مشهورة، وهذه الجملة خبر ثالث عن {الأبرارَ} أو حال ثانية له.
والنضْرة: البهجة والحُسن، وإضافة {نضرة} إلى {النعيم} من إضافة المسبب إلى السبب، أي النضرة والبهجة التي تكون لوجه المسرور الراضي إذ تبدو على وجهه ملامح السرور.
وجملة {يسقون من رحيق} خبر رابع عن {الأبرار} أو حال ثالثة منه.
وعبر بـ: {يسقون} دون: يشربون، للدلالة على أنهم مخدُومون يخدمهم مخلوقات لأجل ذلك في الجنة. وذلك من تمام الترفه ولذة الراحة.
والرحيق: اسم للخمر الصافية الطيبة.
والمختوم: المسدود إناؤه، أي بَاطيَتُه، وهو اسم مفعول من خَتمه إذا شدّ بصنف من الطين معروف بالصلابة إذا يبس فيعسر قلعه وإذا قلع ظهر أنه مقلوع كانوا يجعلونه للختم على الرسائل لئلا يقرأ حاملها ما فيها ولذلك يقولون من كرم الكتاب ختمه ويجعلون علامة عليه، تطبع فيه وهو رَطْب فإذا يبس تعذر فسخها، ويسمى ما تُطبع به خاتَماً بفتح الفوقية، وكان الملوك والأمراء والسادة يجعلون لأنفسهم خواتيم يضعونها في أحد الخنصرين ليجدوها عند إصدار الرسائل عنهم،
قال جرير:
إن الخليفة أن الله سربله ** سِرْبَال مُلك به تُزجَى الخواتيم

والختام بوزن كتاب: اسم للطين الذي يُختم به كانوا يجعلون طين الختام على محل السداد من القارورة أو الباطية أو الدن للخمر لمنع تخلل الهواء إليها وذلك أصلح لاختمارها وزيادةِ صفائها وحفظ رائحتها.
وجُعل ختام خمر الجنة بعجين المسك عوضاً عن طين الخَتم.
والمسك مادة حيوانية ذاتُ عَرْف طيب مشهور طيبه وقوة رائحته منذ العصور القديمة، وهذه المادة تتكون في غُدّة مملوءة دَماً تخرج في عنق صنف من الغزال في بلاد التيبيت من أرض الصين فتبقى متصلة بعنقه إلى أن تيبس فتسقط فيلتقطها طلابها ويتجرون فيها.
وهي جِلدة في شكل فأر صغير ولذلك يقولون: فَأرة المسك.
وفُسر {ختامه مسك} بأن المعنى ختام شُربه، أي آخر شربه مسك، أي طعم المسك بمعنى نكهته، وأنشد ابن عطية قول ابن مُقْبِل:
مما يُعتِّق في الحانوت قَاطفُها ** بالفُلفل الجَوْن والرُّمانِ مَخْتومُ

أي ينتهي بلذع الفلفل وطَعْم الرمان.
وجملة: {ختامه مسك} نعت لـ: {رحيق}.
أو بدل مفصل من مجمل، أو استئناف بياني ناشئ عن وصف الرحيق بأنه {مختوم} أنْ يسأل سائل عن ختامها أي شَيء هو من أصناف الختام لأن غالب الختام أن يكون بطين أو سداد.
وجملة: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} معترضة بين جملة {ختامه مسك} وجملة {ومزاجه من تسنيم}.
واعلم أن نظم التركيب في هذه الجملة دقيق يحتاج إلى بيان وذلك أن نجعل الواو اعتراضية فقوله: {وفي ذلك} هو مبدأ الجملة.
وتقديم المجرور لإفادة الحصر أي وفي ذلك الرحِيقِ فليتنافس الناس لا في رحيق الدنيا الذي يتنافس فيه أهل البذخ ويجلبونه من أقاصي البلاد وينفقون فيه الأموال.
ولما كانت الواو اعتراضية لم يكن إشكال في وقوع فاء الجواب بعدها.
والفاءُ إما أن تكون فصيحة، والتقدير: إذا علمتم الأوصاف لهذا الرحيق فليتنافس فيه المتنافسون، أو التقدير: وفي ذلك فلتتنافسوا فليتنافس فيه المتنافسون فتكون الجملة في قوة التذييل لأن المقدر هو تنافس المخاطبين، والمصرح به تنافس جميع المتنافسين فهو تعميم بعد تخصيص، وإما أن تكون الفاء فاء جواب لشرط مقدر في الكلام يؤذن به تقديم المجرور لأن تقديم المجرور كثيراً ما يعامل معاملة الشرط، كما روي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كما تكونوا يُوَلّ عليكم» بجزم «تكونوا» و«يُوَلّ»، فالتقدير: إن علمتم ذلك فليتنافس فيه المتنافسون.
وإما أن تكون الفاء تفريعاً على محذوف على طريقة الحذف على شريطة التفسير، والتقدير: وتنافسوا صيغة أمر في ذلك، فليتنافس المتنافسون فيه، ويكون الكلام مؤذناً بتوكيد فعل التنافس لأنه بمنزلة المذكور مرتين، مع إفادة التخصص بتقديم المجرور.
وجملة: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} معترضة بين جملة: {يسقون من رحيق} إلخ وجملة: {ومزاجه من تسنيم}.
والتنافس: تفاعل من نَفِسَ عليه بكذا إذا شح به عليه ولم يره أهلاً له وهو من قبيل الاشتقاق من الشيء النّفيس، وهو الرفيع في نوعه المرغوب في تحصيله.
وقد قيل: إن الأصل في هذه المادة هو النَفْس.
فالتنافس حصول النفاسة بين متعدد.
ولام الأمر في {فليتنافس} مستعملة في التحريض والحث.
و{مِزاجه}: ما يمزج به.
وأصله مصدر مازج بمعنى مزَج، وأطلق على الممزوج به فهو من إطلاق المصدر على المفعول، وكانوا يمزجون الخمر لئلا تغلبهم سَوْرتها فيسرع إليهم مغيب العقول لأنهم يقصدون تطويل حصة النشوة للالتذاذ بدبيب السكر في العقل دون أن يغُتّه غتّاً فلذلك أكثر ما تشرب الخمر المعتقة الخالصة تُشرب ممزوجة بالماء.
قال كعب بن زهير:
شُجَّت بذي شبم من ماء محقبة ** صَاف بأبْطَحَ أضحى وهَو مَشمول

وقال حسان:
يَسقون مَن وَرَدَ البريضَ عليهمُ ** بَرَدَى يُصَفَّقُ بالرحيق السَّلْسَلِ

وتنافسهم في الخمر مشهور من عوائدهم وطفحت به أشعارهم.
كقول لبيد:
أغلي السِّباء بكل أدكن عاتق ** أو جونة قُدحت وفُض ختامها

و{تسنيم} علم لعين في الجنة منقول من مصدر سنَّم الشيءَ إذا جعله كهيئة السِّنام.
ووجهوا هذه التسمية بأن هذه العين تصبّ على جنانهم من علوّ فكأنها سَنام.
وهذا العلم عربي المادة والصِّيغة ولكنه لم يكن معروفاً عند العرب فهو مما أخبر به القرآن، ولذا قال ابن عباس لمَّا سئل عنه: هذا مما قال الله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} [السجدة: 17]، يريد لا يعلمون الأشياء ولا أسماءها إلا ما أخبر الله به.
ولغرابة ذلك احتيج إلى تبيينه بقوله: {عيناً يشرب بها المقربون}، أي حال كون التسنيم عيناً يشرب منها المقرّبون.
و{المقرَّبون}: هم الأبرار، أي فالشاربون من هذا الماء مقربون.
وباء {يشرب بها} إما سببية، وعُدي فعل {يشرب} إلى ضمير العين بتضمين {يشرب} معنى: يمزج، لقوله: {ومزاجه من تسنيم} أي يمزجون الرحيق بالتسنيم.
وإمَّا باء الملابسة وفعل {يشرب} معدّى إلى مفعول محذوف وهو الرحيق، أي يشربون الرحيق ملابسين للعين، أي محيطين بها وجالسين حولها.
أو الباء بمعنى (مِن) التبعيضية وقد عده الأصمعي والفارسي وابن قتيبة وابن مالك في معاني الباء، وينسب إلى الكوفيين.
واستشهدوا له بهذه الآية وليس ذلك ببيّن فإنّ الاستعمال العربي يكثر فيه تعدية فعل الشرب بالباء دون (مِن)، ولعلهم أرادوا به معنى الملابسة، أو كانت الباء زائدة كقول أبي ذؤيب يصف السحاب:
شَرْبنَ بماء البحر ثم ترفَّعت ** متَى لُجَج خُضر لَهُن نَئيجُ

اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال ابن القيم:
قوله تعالى: {كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون}
فأخبر الله تعالى أن كتابهم كتاب مرقوم تحقيقا لكونه مكتوبا كتابة حقيقية وخص تعالى كتاب الإبرار بأنه يكتب ويوقع لهم به بمشهد المقربين من الملائكة والنبيين وسادات المؤمنين ولم يذكر شهادة هؤلاء لكتاب الفجار تنويها بكتاب الأبرار وما وقع لهم به وإشهارا له وإظهارا بين خواص خلقه كما يكتب الملوك تواقيع من تعظمه بين الأمراء وخواص أهل المملكة تنويها بأسم المكتوب له وإشادة بذكره وهذا نوع من صلاة الله سبحانه وتعالى وملائكته على عبده. اهـ.